هذه السلسلة من المقالات محاولةٌ لتفعيل النقاش حول اقتصاديات دول الخليج العربية في ظل تداعيات كورونا، واستطلاع مدى استدامتها مستقبلًا.، وستأخذ هذه المقالات صيغةً أقرب إلى الخواطر والتساؤلات والأفكار الأولية التي لم تكتمل بعد، خصوصًا في ظل التقلبات الصادمة التي لم يتضح مداها بعد. 

بيد أني ارتأيت طرحها لأهمية إنعاش الحوار والآراء حول هذه القضايا المصيرية التي تواجه دولنا في هذه المرحلة الفاصلة، خصوصًا أنها تزامنت مع تزايد الحديث عن أخطار تضاؤل التخمة التي وفرها الريع النفطي لدول الخليج على مدى العقود الماضية.

طبيعة اقتصاد دول الخليج

في البداية وقبل أن نتطرق إلى تبعات أزمة كورونا واستدامة اقتصاديات دول مجلس التعاون، حري بنا أن نبدأ بمحاولة فهم طبيعة اقتصاد دول الخليج والإنتاج فيها، إذ ينتشر اللغط والكسل عند الحديث عن تركيبة الاقتصاد في دول مجلس التعاون، وكثيرًا ما تُعامَل وكأنها مثل أي تركيبةِ اقتصاد آخر في العالم دون تعاطٍ معمق مع خصوصياتها.

والحقيقة أنه على الرغم من أن اقتصاديات الخليج جزء رئيس من الاقتصاد العالمي بل في صلبه، فإنها تتمتع بخصائص معينة تنفرد بها، مما يستوجب فهمها وتحليلها قبل الحديث عن تبعات أي أزمة أو هزة، فما قد ينطبق على اقتصاد آخر قد لا ينطبق على دول الخليج، وما قد يكون محمودًا في حالة أخرى قد تكون له تبعات جمة في الخليج، والعكس صحيح. لذلك، في هذا المقال الأول من السلسلة، سنركز سعينا على رسم نظرة أولية تساعدنا في فهم أهم خصائص اقتصاديات الخليج، وكيف تترابط مع بعضها البعض والعالم الأوسع، ومن ثم نبني عليها تحليلنا للمخاطر التي قد تواجهه في المستقبل.

قد يكون أفضل مدخل لفهم خصائص اقتصاد دول الخليج العربية البدء بالنظر إلى دورة المال/الدخل (flow of income) لاقتصاد أي من هذه الدول الست التي تبين حركة الأموال بين الأطراف المختلفة في الاقتصاد، والتي بالإمكان تأطيرها مبدئيًا في الرسم السابق.

وحتى نفهم هذه الدورة، فمن البديهي أن نبدأ بتصدير النفط (خطوة 1)، إذ تعد أراضي دول الخليج المستودع الأكبر والأقل تكلفة لاستخراجه عالميًا حسب التكنولوجيا المتوفرة في القرن العشرين. وقد حُوِّل النفط الذي تكوّن طبيعيًا في باطن أراضي الخليج عبر ملايين السنين إلى سلعة لها سوقها وسعرها وبائعوها ومشتروها، وأصبحت دول الخليج المزود الرئيس لهذه السلعة في العالم ما أعطاها كمية ريع هائلة من تصدير النفط.

بعد هذه الخطوة يأتي نمط التعامل مع هذا الريع النفطي، حيث إن الدولة هي مَن يستلم إيرادات النفط وصرفها، إذ تُستعمَل أغلبية إيرادات النفط لتمويل توزيعات وإنفاقات جارية ارتبطت بقرب المكانة الاجتماعية لمن يستلمها من متخذي القرار، حيث تُوزَّع لجهات خاصة وعامة عن طريق تمويل الرواتب والمخصصات والدعم والخدمات الاجتماعية (خطوة 2)، كرواتب موظفي الحكومة ودعم أسعار الكهرباء وتوفير خدمات الصحة والتعليم إلخ. هذا بالإضافة إلى إنفاقات على مشاريع إنشائية تتضخم في فترات الطفرات وتنحسر عند تراجع أسعار النفط، من الشوارع والمباني وحتى المدن الجديدة.

الاستثمار في شركات المشاريع العامة

أما في المرتبة الأخيرة فقد جاء الاستثمار في شركات المشاريع العامة التي تملكها الدولة وتُبنَى على الإنتاج الربحي وتكاثر رأس المال، كشركات الاتصالات والبنوك والبتروكيماويات إلخ التي احتلت نسبة صغيرة نسبيًا من استعمالات إيرادات النفط.

وحرّكت هذه الإنفاقات باقي الاقتصاد المحلي غير النفطي (خطوة 3) ما ينتج عنه نمط نمو عام معين، يستند النمو غير النفطي فيه على رؤوس الأموال الخاصة التي تجسدت في شكل شركات عائلية، من صغيرها حتى كبيرها، تعتمد أساسًا على استيراد العمالة الوافدة متدنية الإنتاجية والحقوق والمهارة والتعليم، وينحصر إنتاجها في قطاعات اقتصادية منخفضة المخاطر وغير قابلة للتصدير معتمدةً على الاستيراد والاستهلاك المحلي العالي، وتركزت أساسًا في قطاعات الإنشاء والاستيراد والخدمات الاستهلاكية المصاحبة.

ويعتمد هذا النمط من النمو إجمالًا على النمو العددي في صفوف قوة العمل ومدخلات الإنتاج (extensive growth)، ولا يستند على النمو في الإنتاجية والتطور في التكنولوجيا (intensive growth). وبالإضافة إلى الواردات، فقد شكل استملاك واستهلاك البيئة أحد أهم مدخلات الإنتاج، بما فيها الأراضي والبحار والهواء، التي سُخِّرت بشكل موسع ومتزايد لمتطلبات النمو في عملية الإنتاج.

ولم يستطع الموظفون المواطنون المنافسة بسبب انخفاض تكلفة وحقوق العمال الوافدين في هذا القطاع الخاص، خصوصًا في ظل سيطرة نظام الكفالة الذي يجعل صاحب العمل ينجذب نحو توظيف العمالة الوافدة لتدني قوتهم التفاوضية وسهولة السيطرة عليهم. ولذلك انحصر دور المواطنين في المؤسسات الحكومية وبنسبة أقل في المشاريع الربحية ذات الملكية العامة، فيما اعتمد القطاع الخاص العائلي بشكل شبه كلي على الوافدين.

تجدد الدورة

تتجدد هذه الدورة عبر إعادة أصحاب الشركات الخاصة استثمار أموالهم في نفس هذه النشاطات في الاقتصاد المحلي بشكل متواصل، بحيث يُجدَّد نفس نمط النمو ذي الإنتاجية المنخفضة واستمراريته بشكل موسع.  ويتميز نمط النمو هذا باعتمادية كبيرة على المدفوعات التي تغادر الاقتصاد المحلي وتتجه إلى الاقتصاد العالمي، والتي تشمل نسبة عالية من المدفوعات للواردات (من طعام وسيارات وملابس إلخ)، وتحويلات العمالة الوافدة، بالإضافة إلى تصدير نسبة معتبرة من رؤوس الأموال خارج دول الخليج لاستثمارها دوليًا، مما جعل دول الخليج من أكبر مصدري رؤوس الأموال الخاصة والعامة في العالم (الخطوة رقم 4 في الرسم البياني).

إذًا، فبالإمكان تلخيص دورة المال في الخليج كالتالي:

  1. استملاك واستخراج النفط وتحصيل الإيرادات من بيعه للعالم الخارجي.
  2. توزيع الدولة ذات الحكم المطلق للغالبية الساحقة من ثروة النفط العامة في شكل مخصصات وخدمات اجتماعية لجهات خاصة وعامة بمعايير تعتمد على القرب من متخذ القرار، بالإضافة إلى الإنفاق على المشاريع الإنشائية الضخمة، وبنسبة أقل على المشاريع العامة الربحية التي تمتلكها الدولة.
  3. خلط هذه الأموال المتدفقة في القطاع الخاص العائلي مع مدخلات الإنتاج من البيئة والسلع والعمالة الوافدة ذات الإنتاجية والمهارة والحقوق المتدنية، لإنتاج قطاعات اقتصادية ذات استهلاك واستيراد عالي في مقابل صادرات ضئيلة تعيد استثمار بعض من أرباحها في نفس الأنشطة الاقتصادية.
  4. خروج كميات كبيرة من الأموال من الاقتصاد على شكل رؤوس أموال خاصة وعامة للاستثمار في الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى التحويلات من العمالة الوافدة والمدفوعات للواردات.الطلب العام

يعتمد الطلب العام (aggregate demand) في الاقتصاد المحلي بشكل كبير على كثافة الاستهلاك العالية من قِبَل المواطنين والدولة، وتُموَّل كثافة الاستهلاك هذه أساسًا عبر إيرادات النفط المحصلة من الخارج التي توزعها الدولة بدورها على المواطنين. وفي المقابل، فإن العرض العام (aggregate supply) لقوة العمل والسلع التي يحتاجها الاقتصاد لتقديم الخدمات والأنشطة الاستهلاكية في الدولة يُزوَّد أساسًا عبر استيراد العمالة والسلع من الخارج.

وبهذا، يعتمد الطلب العام والعرض العام أساسًا على معطيات ومعايير تحدَّد خارج حدود الدولة بشكل كبير، وتمتد مساحات إعادة تجديدها على مدى العالم، حيث يعتمد تمويل الطلب العام على إيرادات النفط، ويعتمد العرض العام على استقطاب قوةِ عمل وسلعٍ مستوردة.

يعد نمط النمو هذا فريدًا من نوعه في العالم، وقد اختصرناه بمسمى “تصدير النفط – استيراد قوة العمل” (Oil Exportism – Labour Importism (OELI)) للدلالة على أهم ميزتين يتسم بهما. ويختلف هذا النمط من الاقتصاد عن بقية اقتصادات العالم، وعلى سبيل المقارنة وكي تتضح الصورة بشكل أكبر، يمكننا مقارنة دورة (OELI) مع دورة المال في الدول الصناعية الغربية.